"!جيييكه! جيييكه! جيييكه"
في يوم صدامات قصر الإتحادية، نبضَ زفيرُ المدينة وشهيقها أكثر من مرةٍ، خلال الليلة الدامية، على هدير ذاك الهتاف الهادئ الهامس بالكاد: "جيييكه! جيييكه! جيييكه!" كان ذاك هدير همس جماعي من مجموعةٍ من شباب المتظاهرين، ممن هم بين سن السادسة عشرة والثامنة عشرة؛ ذات سن صديقهم الذي قتلته الداخلية من أسبوعين في شارعه المفضل، شارع محمد محمود، وحرمت وسط البلد من رؤياه ومروره على مقاهيها بين كل مظاهرة والأخرى.
وغيّمت سماء القاهرة في آخر الشهر غيوماً ثقيلة، واكتمل القمر ثم اختفى، وطال اختفاؤه أكثر من المعتاد؛ فلم يهلّ إلا بعد خمسة أيامٍ من الغياب. أما اليوم، فأحس القاهرة كأنها تداوي ظلالها بضوء شمسٍ براقٍ هادئ مستقر، وتمسح رياحها بهواءٍ نظيفٍ بارد قليلا، على أتربة كسر شوارعها وريح الدم الرقيق، من النفضة التي مرت للتو؛ فيَنقى سحاب المدينة وسماؤها، وكأنها تمسح على جراحها من المعركة الفائتة، لتتقوى استعداداً لجروح المعركة القادمة.
[تصوير عمرو الإتربي]
ويجد شباب تحرير المدينة فسحةً للعب الكرة من جديد، في شوارع الميدان ومَداخله. ويعود بائعو الورد البلدي (الذي قد يكون ورداً بلاستيكياً أحياناً) للتفسح على كوبري قصر النيل من بعد وقت العصاري؛ يتصيدون الحبّيبة بالخصوص ويحرجون الولد لشراء وردة لحبيبته. ويتحايل البائعون ويتشدقون بجمال البنوتة وأنه لازم يتشريلها ورده.
هم حبّيبةٌ شباب يهربون للوقوف على رصيف الكوبري الواسع، للاستمتاع بفسحةٍ قد تتيح لمس كتف لكتف، أو ارتياح ذراع حبيبٍ على كتف محبوبته، أو قبلة سريعة؛ فأنظار معظم المارين عادة ما تكون متعلقة في موج النيل، أو في أفق ميدان الأوبرا الرحب البعيد على ناحية، أو أفق ميدان التحرير الدافئ بمنظر رؤوس خيام المعتصمين على الناحية المقابلة في الاتجاه. وتطوي المدينة صحف أسماء شهدائها الذين مرّ هديرهم مرةً جديدةٍ، وتفرد صفحةً جديدة للأحياء من شهدائها القادمين.
[تصوير ماري جيرود]
في ليلها، تتعزى عيون القاهرة الجميلة بمرأى هلال القمر الباسم بعد طول غيابه. وتتذكر المدينة نهش كلابٍ عدة؛ كلاب نظامٍ عهدته ومضى، ومجلسٍ عسكري كبس على أنفاس شوارعها قرب العامين، وقد قَابَلت لتوها نهش الإخوان والسلفيين. تختلف كلاب النظام، والنهش واحد وكبرياء الكلاب واحد، لا تستغربه المدينة؛ ولذلك ترى هدوءاً في سماءها، فانتصارها واقعٍ قادم، ولديها من الجمال في شبابها وصغارها ماهو ذخرٌ لتوقيع ذاك النصر، في وقتٍ لا تعلمه حتى القاهرة الجميلة نفسها.